الأربعاء، ١٩ مارس ٢٠٠٨

ثورة الجياع

قرار متهور غير مدروس اتخذه محافظ الفيوم بإلغاء الدقيق من البطاقات التموينية وتحويله للمخابز أدى إلى اشتعال الغضب في كافة أنحاء المحافظة مهددا بثورة خطيرة قد تطيح بالحكومة كاملة لو لم يتدارك المسؤولون الأمر ويتراجع المحافظ في قراره معتذرا، فالمواطن المطحون صابر وصامد أمام كل أنواع الفساد المستشري حفاظا على رغيف الخبز الذي يأكله ويأكله أولاده لكنه لا يقرب المساس برغيف الخبز أبدا لأنه لن يعود لديه شيء آخر يخسره.
بدأ الأمر حين اتجه الأهالي للوحدة المحلية بقرية سنهور القبلية من أجل صرف مستحقاتهم من الدقيق فأخبرهم المسؤولون بأنه لا يوجد دقيق وأن المحافظ قرر صرف الدقيق للمخابز، ومن المعلوم أن حصة كل أسرة من الخبز اليومي عشرة أرغفة أيا كان عدد أفراد الأسرة، والذي يعينهم على تحمل هذا الشظف هو حصة الدقيق التي يصرفونها مع البطاقات التموينية فيخبزونها، انتشر السخط والتبرم وسط الأهالي فقاموا بمهاجمة مجلس الحكم المحلي ورئيسه معتدين عليهم بالضرب، بل قاموا بحبسهم داخل مكاتبهم مهددين بعدم الإفراج عنهم حتى يفرجوا عن الدقيق، وانتشر الخبر بين أرجاء القرية التي هرعت إلى الوحدة المحلية، حيث إن الانتفاضة الأولى كانت انتفاضة النساء، قام رئيس المجلس بالاتصال بالشرطة التي قدمت قوة منها لتفض التظاهرة فقام الأهالي بقذفهم بالطوب والحجارة ، وتسلحوا بالشوم، بل احتجزوا ضابط الشرطة والقوة المرافقة له داخل المجلس وقاموا بإغلاق الطريق بوضع حواجز خشبية وإطارات السيارات في الطريق وأشعلوا فيها النيران، لم يقتصر الأمر على هذا، إذ جاء عضو مجلس الشعب في القرية (ياسين عليوة) لكي يهدئ من ثورة الأهالي لكنه استفزهم حين قال لهم (اللي عايز قمح ييجي ياخد من عندي) فردوا عليه بأنهم ليسوا متسولين وأنهم يطالبون بحقهم وأنهم انتخبوه من أجل أن يطالب بحقهم لا ليتصدق عليهم، وحدثت مناوشات فقام الأهالي بضربه أيضا، بل شيعه الأطفال والشباب بالهتاف والأغاني المتهكمة عليه قائلين (يا ياسين يا جزمة ياللي ملكش لازمة) أو (يا ياسين شيل العمة وحط الطين) وحاصروا داره.
ثم انتقلت أنباء الانتفاضة إلى القرى المجاورة، فقام أهالي قرية ترسا بمهاجمة المجلس المحلي لديهم، وقاموا بحرق سيارة رئيس المجلس وسرقة الخزانة.
وفي فيدمين قام الأهالي بإغلاق الطريق السياحي أمام السيارات مانعين أية سيارة من المرور، وفي الفيوم المدينة توجهت مجموعة من الأهالي إلى منزل المحافظ قاذفين إياه بالطوب والحجارة.
في اليوم التالي مباشرة تراجع المحافظ في قراره، وكان الدقيق في المجالس المحلية وتم توزيعه على الأهالي، غير أن الأهالي ذاقوا لأول مرة حلاوة الانتصار وانتزاع حقهم بالقوة من الحكومة، وفي نفس الوقت سقطت ظاهرة كبير القرية التي يلجأ إليه لحل النزاع، ويبدو أن هناك مفاهيم كثيرة أخرى تغيرت في القرية بسبب أزمة الرغيف.

السبت، ١ مارس ٢٠٠٨

عالم خيري شلبي دراسة لرواية (وكالة عطية)

القارئ لخيري شلبي يلحظ أن هناك فرقا كبيرا بين خيري شلبي الروائي وخيري شلبي القاص ، فحين يكتب خيري شلبي الرواية الطويلة يبدو مختلفا عنه حين يكتب القصة القصيرة ، وكأن القصة القصيرة تمسك بتلابيب خيري شلبي مضيقة عليه الخناق تمنحه مساحة حركة أقل من الإبداع ، لكن حين يكتب خيري شلبي الرواية تشعر أنه وجد نفسه وعالمه ، فتراه يحلق في سماء الإبداع ، في عوالم كثيرة جذابة تبهرك ، تشدك رغم أنفك للإمساك بالرواية ، لا تدعك تتركها من بين أصابعك ، تنتظر النهاية غير أنك في نفس الوقت لا تتمنى أن تأتي إذ النهاية دليل على انتهاء الرواية ، وبالتالي انتهاء متعة لا حدود لها.يعرف هذا كل من قرأ لخيري شلبي ، يعلم أن زيادة صفحات الرواية دليل على زيادة متعتها وتشويقها ، لا يمكن أن يصيبك الملل أبدا وأنت تقرأ رواية طويلة له ولو كانت من ثلاثة أجزاء كالأمالي (أولنا الولد - ثانينا الكومي - ثالثنا الورق) ، في حين قد يصيبك الملل لو قرأت قصة قصيرة له لا تتجاوز صفحاتها ثلاث صفحات ، غير أنك لو ولجت عالم خيري شلبي من خلال الرواية فلن تمل لا من القصة ولا من الرواية ، لذا لا أنصح بولوج عالم خيري شلبي الثري من خلال القصة بل من خلال رواياته الطويلة.رواية وكالة عطية التي أخذ عنها جائزة نجيب محفوظ للإبداع الروائي ، من أعمق ما كتب خيري شلبي ، يرصد فيها لواقع مجموعة من المهمشين ، ما كنت تظنهم بيننا يرصد لتناقضهم ، وحياتهم بلا رتوش أو ألوان أو أصباغ ، بل تبدو العبارات في بعض الأحيان فجة خادشة للحياء ، لكنك لا تتوقع خروجها إلا هكذا ، طبقا لملامح الشخصية التي أجاد شلبي رسم خطوطها بمهارة لا يدانيه فيها أحد .تدور أحداث الرواية في مدينة دمنهور التي أخذنا خيري شلبي إلى حواريها وأزقتها وآثارها ، وملامح المدينة القديمة في وصف امتزج به الواقع بالخيال حتى إنك لا تدري أهذه الأماكن التي يصفها حقيقة فعلا موجودة أم أنها من نسج الخيال ، أم أنها كانت موجودة واندثرت ، ولا تملك في النهاية إلا أن تندهش لبراعة الوصف الذي يجعلك ترى هذه الأماكن بعينينك وتتخيلها وأنت في مكانك ، في مدينة دمنهور القديمة وكالة كانت قديما استراحة خديوية وبعد الثورة أممت واستأجرها عطية من الحكومة واستأجرها من عطية شوادفي الذي صار حاكما بأمره للوكالة ، الوكالة تبدو أشبه بلوكاندة لا تأوي إلا المهمشين ، والمحتالين ، والمعذبين ، والمتسولين ، تنقسم إلى ساكني حجرات وساكني أرض الوكالة ، الذين لا يبحثون سوى عن مكان يأويهم في الليل ليناموا نظير قرش واحد لمفترش الأرض وقرشان لساكن الحجرة التي يبدو أن من يسكنها هم علية القوم بالنسبة لهؤلاء الأشد بؤسا ، ومن خلال بطل الرواية ذلك الطالب في معهد المعلمين الذي ضرب معلمه وفصل من المعهد وتعرف على أحد ساكني هذه الوكالة وكان يمسح الأحذية فأخذه للسكن بالوكالة بعد أن رثى لنومه في الشارع تحت الكباري ، ومن خلال هذه الشخصية ينقلنا خيري شلبي لعالم الوكالة وما يدور فيها ، ويرسم لنا شخصية سكان الوكالة ابتداء بشوادفي الماكر الداهية الحاكم بأمره داخل الوكالة القادر على قتل أي شخص ودفنه في مقبرة داخل الوكالة لا يدري بها أحد سوى عدد قليل جدا لا يستطيع فتح فمه حتى لا يدفن مع المدفونين فيها ، ومرورا بشخصية سيد زناتي ذلك المحتال الأنيق المثقف الذكي واسع الحيلة وزوجاته الأربع اللاتي يقمن معه في حجرة قسمها ثلاثة أدوار اثنتان يسكنان السفلي واثنتان يسكنان العليا أما الوسطى فهي لجلسة الشرب والمزاج واستقبال الأصدقاء والزوار وتصريف أمور العمل ثم تذهب كل واحدة لمكانها وتبقى من عليها الدور لتبيت معه ، والذي أخذ الطالب معه في بعض عمليات النصب درت عليهم نقودا كثيرة ، ثم شخصية وداد الراقصة التي تتمسك بشرفها وترفض أن تسلم نفسها إلا بعقد زواج ، غير أنها تضعف أمام شخصية بطل الرواية ، الغريب أن خيري شلبي لم يذكر اسمه مطلقا حيث رواها كلها على لسانه مستخدما ضمير المتكلم ، ولا ينسى خيري شلبي أن يؤرخ لهذه المرحلة من حكم عبد الناصر والاضطهاد الذي لاقاه الإخوان المسلمون في عهده ، من خلال أصدقاء البطل من الإخوان الذين انتهى بهم الحال إما في السجون وإما قتلى في السجون أيضا ، وتنتهي الرواية بدخوله السجن حيث وقعت جريمة قتل في الوكالة قتلت زوجة سيد زناتي الرابعة التي كان لها قصة دامية أجاد خيري شلبي سردها بطريقة تستدر الدمع ، والتي أحبت الفكهاني وأحبها الفكهاني وتصبب بها في شعره ومواويله فرفض أخوها تزويجها له ، وعندما لجأ للعمدة أخذ العمدة رأيها فأصرت على حقها في التزوج به ، فانتوى أخوها قتلها غسلا للعار فاضطرت للهرب ليلا وتعرفت بزوجة سيد زناتي التي عرضت عليها ان تعمل معهم لما وجدتها بلا مأوى ، وأن تتزوج من سيد زناتي ، فوافقت ليكون مقامها معهم شرعيا وتحصنا من وساوس الشيطان ، وظل حبيبها السابق يجوب البلاد بحثا عنها ، حتى عثر عليها وحكى قصته لسيد زناتي الذي أخذته الشهامة وطلقها ليتزوجها حبيبها الأول ، لكن أخوها ينقض عليهم وينجح في قتل أخته وحبيبها قبل أن يمسكوا به ، لكن لم يكن هذا السبب في دخول بطل الرواية السجن ، فقد انتهت هذه القضية بسلام ، ترى هل قبضوا عليه لأنه كان من الإخوان ؟ لا أذكر المهم أن القصة تنتهي وهو في السجن ، لماذا يا عمدة دخل السجن ، لماذا ؟ عندما أتذكر سوف أحكي لكم.